الخيال والتخيل: هل التخيل مجرد تكرار أم أنه تجدد وابتكار ؟



الخيال والتخيل: هل التخيل مجرد تكرار أم أنه تجدد وابتكار ؟


:مقدمة


إذا كان الإدراك بجوهره هو القدرة على اكتشاف العالم الواقعي، وكانت الذاكرة هي القدرة على استعادة الماضي كماض، فالخيال هو توجه نحو المستقبل وتحرر من الواقع ...

وحقيقة التخيل مسألة طالها البحث الفلسفي بعمق إذ إن مسألة إبداع عمل جديد غبر موجود في الطبيعة يبدو أمرا غامضا: كيف للإنسان تلك القدرة على تخيل ما لا وجود له؟ لذلك تعددت الآراء حول طبيعة وماهية العمل التخيلي.

 وحيث تنتهي الحقيقة يبدأ الخيال، يبدأ التحرر من عناصر المادة والواقع والرحيل إلى عالم مليء بالأفكار والابداع.

ولأهميته ودوره في الحياة النفسية والعقلية اهتم الفلاسفة وعلماء النفس بهذه الملكة متسائلين عن طبيعتها وآليات عملها وحدود وظائفها ودورها.

الإشكالية:

فما هي طبيعة التخيل  هل هو استعادة مخففة لصور سبق أن أدركها الانسان في الماضي أم أنه إيجاد وابتكار لصور جديدة؟

هل التخيل مجرد تكرار أم أنه تجدد وابتكار؟ وكيف يمكن تمييزه عن الادراك الحسي؟


النظرية التجريبية:

 

يعتبر التجريبيون التخيل مطابقا لعملية الإدراك الحسي. فهم يعتبرون أن لا شيء في الذهن ما لم يكن قد مر من قبل عبر الحواس. وأن الأفكار هي صور المدركات الحسية محفوظة في الدماغ . لهذا اعتبروا أن التخيل هو إعادة تمثل للصور الحسية المدركة بواسطة الادراك الحسي، ولكن بدرجة أقل وضوحا. فالتخيل بحسب هيوم هو استرجاع لمدركات ضعيفة  الشدة  والوضوح لصور سبق وأدركناها في الطبيعة، هو محاكاة للموجودات الموجودة في الطبيعة، يصبح معها التخيل فاعلية مادية مرتبطة بالواقع الحسي. فيميز بين الانطباعات والأفكار التي هي صور المحسوسات. واعتبر أن هذه الأفكار هي صور باهتة وبقايا إدراك حسي سابق، وأن الصور الذهنية في المخيلة تشبه الصور الموجودة في الألبوم.


وجون  لوك يقدم أدلة على هذا الموقف:  فالأطفال المكفوفين منذ الولادة لا يملكون تصورا للألوان والأحجام وكذلك الأمر بالنسبة للأطفال الصم منذ الولادة لا يمكنهم تصور الأصوات . ويتوافق رأي التجريبيون مع رأي ألان بأن التخيل هو وهم فلا يمكن ان نتخيل اي شيء فأنا أتخيل أنني أتخيل . فالتخيل ليس أكثر من انفعالات وحركات يقوم بها الجسد ... (قصة تخيل البانتيون)  نحن نتخيل أننا نتخيل .


النقد:

لم يميز التجريبيون بين التذكر والتخيل ولا بين الادراك الحسي والتخيل. فالذاكرة محدودة في الزمان مرتبطة بالماضي اما التخيل فتحرر وانطلاق . كما ان مواضيع الذاكرة واقعية وموجودة في العالم هذا بينما مواضيع التخيل فكثيرا ما تكون خارجة عن المألوف ولا تنتمي في كثير من الاحيان للعالم الذي نعيش فيه. كما أن اللافت أن الوعي يتحكم في الذاكرة بينما يتحكم اللاوعي في التخيل ...

كما ان التخيل يختلف عن الادراك الحسي، لأنه يستمد موضوعاته من العالم المادي المحسوس بينما لا تمت موضوعات التخيل للعالم المادي إلا من حيث استناده عليها. ففي التخيل إعادة بناء وصنع وخلق جديد.

 

النظرية الظواهرية:

يذهب هوسرل بعيدا عن هذين الرأيين : إذ يرى أن الوعي ليس خزانا  للصور بل هو حركة تقصد غيرها بمعنى أن الوعي قصدي فكل "وعي هو وعي لشيء ما " فالتخيل هو تخيل لموضوع ما بغض النظر عن موضوع التخيل فليس هناك صورة تخيلية انما هناك وعي متخيل قادر على التوجه نحو موضوع خارجه .فلو طلبنا من شخصين ان يتخلا مركبا يغيب في البحر لقدم لنا كل واحد منهما صورة مختلفة لهذا المركب وهذا ما يؤكد ان عملية التخيل هي توجه من الذات الواعية نحو موضوع خارجها .

أما التخيل برأي سارتر فهو تصور للشيء بوصفه عدما. أي نتخيل الشيء بوصفه غير موجود أمامنا ، بوصفه عدما. فرسامين يشاهدان المشهد نفسه يستطيع كل منهما أن يعيد رسمه بطريقة مختلفة وهنا تأكيد على ان العمل التخيلي هو عمل إبداعي بالدرجة الأولى ...وفي التخيل نحتاج لمادة أعبر من خلالها إلى الصورة التي أريد تخيلها؛ فأن أتخيل الوردة يعني أن أصنع لها شبيها في وعيي لأنني بهذا التأثير الوجداني سأخترق الصورة المادية الحسية وأتجاوزها وأضفي عليها رموزا خيالية وهنا يكون الابداع.

 التوليفة:

إذن، المخيلة  تجعل من الانسان مبدعا ومحركا وفاعلا أساسيا في هذا الوجود وليس كائنا سلبيا يتلقى الادراكات بشكل سلبي ويتعامل معها تعامل المتلقي . الانسان هو كائن فاعل يؤدي دوره في الحياة بإبداع لان الابداع هو سمة انسانية بامتياز ...

وهكذا نستنتج مع لالاند أن التخيل ملكة التركيب لشيء لا واقعي ولا موجود. كما نستنتج مع باشلار أن التخيل هو " ملكة تغيير الصور التي يقدمها الادراك الحسي "  ولكن هذا لا يعني أن التخيل هو إتيان من عدم، إنما هو عملية نفسية تستمد معطياتها من الواقع التمثيلي كما تلجأ إلى الوهم والابتكار.



"غرضنا في جميع ما نستقريه ونتفحصه استعمال العدل لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نميزه وننقده طلب الحق لا الميل مع الآراء" ابن الهيثم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق