الميول عند الإنسان طبيعة الميول



اهتم الفلاسفة وعلماء النفس بدراسة ميول الانسان ودوافعه وحاجاته، بسبب الغموض الذي يلف تلك القوى النفسية ، طبيعتها وأصلها ودورها في حياة الانسان. فالميول هي قوى نفسية كامنة توجه الكائن الحي (حيوان أو انسان ) نحو هدف محدد.. أي هي توجه تلقائي للحاجات نحو الموضوعات التي تؤمن لها الاشباع ، ووجود لذة مرافقة لهذا الاشباع . ولا تظهر إلا من خلال الحركة والسلوك، ومن خلال الانفعالات العاطفية.




 والميول هي على أشكال متعددة يمكن التمييز بين:

الغريزة: هي ميول حيوانية يتم اشباعها بواسطة مهارة عملية فطرية . وهي تتحكم بتصرفات كل من الحيوان والانسان بشكل لاواعي .(مثل غريزة الرضاعة عند صغار الحيوان والانسان)

الحاجة : وهي ميول عضوية ، تعبّر عن نقص يعتري الكائن الحي ، بشكل مؤقت ، يسعى لتحقيق الاشباع .وهي اما تكون حاجات أساسية ( مثل الحاجة الى الطعام والشراب ) ، واما تكون حاجات ثانوية (مثل اقتناء سيارة أو تلفاز)

الدوافع: هي حاجات واعية لغاياتها ولسبل اشباعها .( كالدافع للتعلم )




ظهور الحاجات العضوية واختفاؤها: قدم كانن تفسيرا لكيفية ظهور الحاجات العضوية واختفاؤها ثم عودة ظهورها مجددا (الحاجة الى الطعام) . فبرأيه ان الجسم يميل إلى إعادة تثبيت توازنه . فبناء العش هو ميل الطير للتكيف مع البرد أو مع وضع البيوض واحتضان البيض . اما شعور الجوع عند الانسان فهو انعكاس لانقباضات المعدة .


الإشكالية: طبيعة الميول

اختلف الفلاسفة وعلماء النفس حول هذه المسألة بحيث يؤكد البعض على فطرية الميول والبعض الاخر يعتبرها مكتسبة اما من خلال السلوك والحركات الجسدية واما من خلال التجربة المصاحبة للذة . فما هي طبيعة الميول ؟ هل تتولد من خلال السلوك ام التجربة ؟ 

النظرية الأولى: موقف التجريبيين من طبيعة الميول: (يتولد الميل من التجربة)

يعتبر الفلاسفة التجريبيون أن الانسان يولد صفحة بيضاء ولا شيء في الذهن ما لم يمر بالحواس ، وبالتالي فان الانسان لا يمتلك أي ميل لحظة ولادته وأن كل ما يميل اليه سيكتسبه من تجاربه الخاصة في الحياة .

و"كوندياك" ، وهو من الفلاسفة التجريبيين ، يؤكد على هذا الرأي فيعتبر ان خبرات الانسان هي التي تخلق ميوله وتحددها . فهناك إذاً إحساس باللذّة تتبعه رغبة تكون بمثابة ميل. فيكون الذهن أشبه بتمثال لا حياة فيه يتلقّى الأحاسيس من العالم الخارجي، فالإحساس برائحة الوردة يولّد عندنا شعورًا بلذّةٍ حسيّةٍ يدفعنا إلى تكرار هذا الفعل، وهكذا تؤدّي الرغبة في الإحساس برائحة الوردة من جديد إلى توليد ميل لم يكن من قبل .

تجربة- لذة- ذكرى- رغبة (ميل)




 تقويم هذه النظرية (نقد النظرية):

لا يمكن القبول بنظرية كوندياك  لأن حصول اللذة عند الإحساس برائحة الوردة يفترض وجود ميْل إلى الروائح الطيبة. وهكذا فان تجربة اللذة لا تخلق الميل؛ بل تحركه فيبرز إلى حيّز الوعي ويتحدد ويصير رغبة في رائحة معينة؛ فالرغبة هي الميل الذي صار واعيًا كما يقول “سبينوزا”. بذلك تكون الميول سابقة على الأحاسيس والانفعالات، وهي مقياس الحكم على الأحاسيس.


النظرية الثانية: موقف السلوكيين من طبيعة الميول: (يتولد الميل من  السلوك)

يرى علماء النفس السلوكيون أنه كل ما لا يمكن مراقبته في الخارج ، موضوعيا لا يمكن اعتباره موضوعا نفسيا قابلا للمعرفة العلمية. ولذلك فان دراسة الأمور النفسية تنطلق من معرفة الاستجابات على مجموعة المثيرات التي يتعرض لها الانسان .

وبناء عليه يرى ريبو ، أن الميول هي استجابات لمؤثرات داخلية أو خارجية . وبالتالي لا يوجد ميل من دون حركة ما. فالميل إما أن يكون حركة وإما أن يكون إيقافًا لحركة ناشئة. ويقرر ريبو أن الميول هي ظواهر أولية تتأسس عليها الحياة العاطفية. وهكذا يردّ ريبو الميل إلى آلية فيزيولوجية  ترتسم على ملامح الوجه وأطراف الجسد. فالميل هو حالة تَوثُّب وتهيؤ للحركة قبل حصولها بالفعل. فالحيوان المفترس الذي يُمزق فريسته بأنيابه ينفذ ميلاً. كما أن هذا الحيوان عندما يستعد للهجوم على فريسته يرسم حركة الهجوم في جسده قبل التنفيذ.




 ومن خلال هذا المنظور نفسه فإن الحركات المتكررة التي تشكل عادة من العادات يمكن أن تنقلب إلى ميل. فالمحاولات الأولى الفاشلة التي قام بها  بها المدمن على التدخين أو المدمن على شرب الكحول، هي التي أدت  بفعل التكرار إلى ولادة ميوله الى التدخين  .

 

تقويم هذه النظرية(نقد النظرية):

لو كانت الميول مجرد حركات، فستكون حركاتنا كلها ميولاً، وهذا لا يمكن القبول به. فهناك حركات نفعلها لا تعبر عن ميل لدينا انما نفعلها اضطرارا. لذلك فإن الحركات المتكررة لا تكفي لتوليد الميول. فالمعلوم لدى الجميع أن العادات ليست ميولاً. فالتلميذ لا يكتسب ميلاً لسلوك طريق المدرسة خلال عطلته الصيفية وخلال أيام الآحاد.

   إذًا من الخطأ الاعتقاد بأن العادة تولد الميل ؛ وجُل ما في الأمر أن العادة تسهل الأفعال وتجعلها آلية من دون أن تزيد في قوة الميل ذاته.

ويميز ابن سينا بين الشهوة والنزوع : فيعتبر ان الشهوة هي الميل الحقيقي لانها طلب ما هو نافع ولذيذ في حين ان النزوع فهو يهدف للحفاظ على بقاء النوع وبالتالي الحفاظ على الذات فهو ليس ميلا حقيقيا .

موقف برادين من طبيعة الميول: (على سبيل التوليف)

يلتقي برادين مع ابن سينا في التمييز بين نوعين من الميول: فهو يميّز بين نمطين من الميول: الميل إلى والميل نحو، فالنمط الأول ليس ميلاً في الحقيقة، لأنه لا يحمل هدفًا إلى موضوع، بل هو مجرد انعكاس آلي كمن يسحب يده لتلافي جسم حارق. أما الميل الحقيقي فهو الميل نحو أشياء محددة لإشباعه. فلا وجود للميول إلاّ عندما نهدف للحصول على غرض معين. وبذلك فإن الميل حسب تعبير “برادين” يعبّر عن نقص في الكائن لا يمكن سدّه إلاّ بالحصول على غرض خارجي هو الإشباع.

لمتابعة شرح الدرس وتطبيقاته اضغط على الرابط:


 




"غرضنا في جميع ما نستقريه ونتفحصه استعمال العدل لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نميزه وننقده طلب الحق لا الميل مع الآراء
 ابن الهيثم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق