التُراثِ والحدَاثة : قضايا معاصرة في الفلسفة العربية : عصر النهضة


التُراثِ والحدَاثة : قضايا معاصرة في الفلسفة العربية : عصر النهضة

التراث والحداثة في الفكر العربي المعاصر



 من أكثر القضايا اثارة للجدل في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هي مسألة تقدم العرب وتحررهم ، بحيث اعتبر البعض ان تبعية العرب والمسلمين لتراثهم الديني والثقافي هو سبب ترديهم وتخلفهم في حين اعتبر البعض الاخر ان ابتعاد العرب عن اصول دينهم ومبادئه الاصلية وعدم فهم لاوامر الدين ونواهيه هو سبب التخلف ... في حين وقف فريق ثالث موقفا وسطا بين الموقفين السابقين ...

 يتَّفقُ معظم المفكرين على أنَّ الشرارةَ الأُولى التي أيقظَت العربَ من نومهم الطويل أشعلتها حملةُ نابليون على مصر في عام 1798، أي إنَّ السببَ الأوَّل للنهضةِ العربيَّة، إن صحَّ التعبير، هو "الآخَر": الغَرب المُحتـَلّ أو المُستعمِر.
فإنَّ هذه الصدمةَ قد أثارتْ، قَدْرًا من الحركة التي يُطلَقُ عليها "حركةُ النهضةِ العربيَّة الحديثة". هذه الحركةُ الفكريَّة طرحَت هذا السؤالَ الخطير: لماذا تخلَّفَ العربُ والمسلمون حضاريًّا، وخاصَّةً عِلميًّا وتِقانيًّا في الوقت الذي تقدَّم فيه غيرُهم؟ هل التمسك بالتراث ، ومن ضمنه الدين ، هو السبب الفاعل في تخلفنا؟ هل يشكل الاخذ بالحداثة الغربية سبيلا للخروج بنا الى دنيا التقدم والمدنية والحضارة؟ وهل سنأخذ بتلك الحداثة كما اخذ بها الغربيون تماما؟ام نربطها ببعض تراثنا الاخلاقي والديني؟ وهل تعد مزاوجة الدين مع الحداثة عملا تلفيقيا غير ناجع؟ وهو السؤالُ الذي يدورُ حولَ محورِ أزمةِ التطوُّر الحضاريِّ في الوطن العربيِّ.
تحديدُ مفهوم "التُراث" و"الحداثة"

  لفظةُ "التُراث" مصدرٌ مشتقٌّ من الفعل "وَرِثَ"، وهي مرادفةٌ، في المعجم العربيِّ، لـ"الإرث" و"الميراث" و"الوِرث"، وتعني ما يَرِثُه الفردُ من أهلهِ من مَالٍ أو حَسَـب. ولكنَّها أصبحتْ تتضمَّن لدى العرب والمسلمين، في العَصر الحديث، الموروث الثقافيِّ والفكريِّ والدينيِّ والأدبيِّ والفنِّـيِّ والعلميِّ...

 أمَّا الحَداثة (مصدر حَ د َثَ) فهي تغييرٌ في المنهجِ والرؤيةِ والهدَف، وتحريرُ التراث من مضمونه الإيديولوجيّ والوجدانيّ الذي يُضفي عليه طابعًا مُطلقًا، بعيدًا عن المفهومِ النسبيِّ والتاريخيّ الذي تلتزمُه الحداثة. 

الإشكالية: 

هل يكون تمسك العرب بتراثهم هو سبب تخلفهم وتأخرهم الحضاري؟ أم أن تخلي البعض التراث وتمسكه بالحداثة هو السبب؟  لماذا تأخر العرب وتقدم الغرب؟ 

أوَّلاً: الاتِّجاهُ التراثي:

     يتفق دعاة الاتجاه السلفي على ان السبب الاول لتخلف العَرب والمسلمين هو عدمُ التزامهم للنموذجِ العربيِّ الإسلاميِّ الأصيل. ويرى أصحابُ هذا الاتِّجاهِ أنَّ قوانينَ الماضي وأعرافَه وقيمَه يمكنُ أن تُطبَّقَ على الحاضر وعلى المستقبل، إمَّا بسبب قُدسيَّتها، أو لأنَّها ساميةٌ ومُطلقة، إلى حدٍّ يجب استعادتُها بحذافيرها، بل يجبُ تطويع الواقع الحاضر والمستقبل لينسجمَ معها.

محمَّدعبدُه

 يرى محمد عبده ان التقليد الذي يسود المجتمع العربي والاسلامي على الصعد المختلفة دينيا ودنيويا هو سبب تخلف الشعوب العربية ، ولهذا دعا  إلى تحرير الفكر من قَيد التـقـليد، وفَهْمِ الدِّين على طريقةِ سلَفِ الأُمَّة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كَسبِ المعارف إلى ينابيعها الأُولى، واعتباره من ضمن موازين العقل البشريِّ التي وضعها الله لتردَّ من شَطَطِه وتُقلِّلَ من خَلطِه وخَبطِه"  وأن يصبح العقل صديقًا للعلم، باعثًا على البحث في أسرار الكون، داعيًا إلى احترام الحقائق الثابتة، مُطالبًا بالتعويل عليها في أدب النفس وإصلاح العمل.
 على المستوى السياسي والاجتماعي ، نادى محمد عبده "بمدنيَّة السلطة في المجتمع، ومدنيَّة مُؤَسَّسات هذا المجتمع، واتِّخاذ الطابع القوميِّ المدنيّ، الذي لا يفرِّق بين المواطنين بسبب الاعتقاد الدينيّ أساسًا ومنطلقًا وصيغةً لنظام الحُكم." وهذا الرأيُ يُمثِّل اتِّجاهًا ثوريًّا،عَلمانيًّا كان محمد عبده سباقا اليه من بين الفكرين الاصلاحيين.

كما أكَّد أنَّ "على المسلمين إعادة تأويل شريعتهم وتكيـيفها وَفقًا لمتطلَّبات الحياة الحديثة." وللوصول إلى ذلك، أقرَّ بمبدإ "المصلحة" العامَّة، لأنَّ "غايةَ الله من الوَحي رعايةُ مصلحة البَشر." لذلك اختار مبدأَ تأويل النصوص لتحقيق هذه الغاية.
 وقد اعترف، بكلِّ شجاعةٍ ، بتخلُّف المسلمين، وحاول أن يفكَّ الارتباطَ بين الإسلام والتخلُّف. وكان لا يُنصِتُ لأقرانه وزُملائه في سبـيل مُواجهة الغرب، بل يصفُهم بالجمود وينفي عنهم صفةَ المعاصرة، بل يتَّهمُهم بـ"الانتحار الفكريّ." ويدعو إلى تحرُّر الجمهور من "العقائد الفاسدة المحرَّفة التي روَّجها منذ قرون مشائخُ السوء خدمةً لمصالحهم ومصالح أسيادهم المستبدِّين بالحكم." 
      انطلق تفكير محمد عبده من قضية الانحطاط الداخلي للمجتمع والحاجة الى اصلاحه. وكان ينظر الى المنجزات الغربية بعين الاعجاب ولكنه كان يريد من المجتمع الاسلامي مواكبا لتلك التطورات العلمية والثقافية وفي الوقت نفسه محافظا على روح الشرع الاسلامي . ولذلك جاءت دعوته الى ضرورة تقيد المجتمع بالشرائع الخلقية التي جاء بها الدين . 
 ويرى ان تقوية الجذور الخلقية للمجتمع الاسلامي لا تكون بوقف مجرى التطور بل بالاعتراف بالحاجة الى التغيير المرتبط بمبادىء الانقسام . فالاسلام يشكل الاساس الخلقي لمجتمع تقدمي حديث وهذا لا يعني ان الاسلام يحبذ كل ما يتم باسم التقدم بل هو مبدأ ردع يمكن المسلمين من التمييز بين الصالح والرديء. 

ولذلك كانت مهمته مزدوجة : اعادة تحديد ماهية الاسلام الحقيقي ، وتحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الامة قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب معارفه الى ينابيعه الاولى واعتباره من ضمن موازين العقل البشري.
والمهمة الثانية فهي التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة . 
 وقد كان يرى أن الاسلام دين منسجم مع متطلبات العقل البشري واكتشاف العلم الحديث مع احتفاظه بفكرة الله في الوقت نفسه. انه عنده " دين الفطرة " والجواب على قضايا العلم الحديث . 

 وأدرك محمد عبده أن الشعوب العربية لن تصبح قوية الا اذا اقتبست من اوروبا العلوم من دون ان تتخلى عن الاسلام ، وهذا يقتضي تغييرا في مؤسسات المجتمع الاسلامي ، في نظامه الشرعي ومدارسه وأساليب حكمه... لذلك على المسلمين ان يعيدوا تأويل شريعتهم وتكييفها وفقا لمتطلبات الحياة العصرية .

شكيب أرسلان :

        يفصل شكيب أرسلان بين الاسلام والمسلمين ، فيذهب الى ما ذهب اليه محمد عبده من ان تأخر المسلمين ليس سببه الشريعة الاسلامية بل جهل المسلمين بتلك الشريعة وعدم تطبيق احكامها كما يجب . فيحدد الافات التي استبدت بهذا المجتمع ب:
-  الجهل : عجز المسلمون بسببه عن التمييز بين الحق والباطل وبين الصحيح والفاسد . 
-  فساد الاخلاق: استشرى هذا الفساد خصوصا بين الامراء والحكام اللذين أبيح لهم خرق حدود الدين.
-  الجبن والخمول: وذلك باستسلام المسلمين لسيطرة المستعمرين وتسليمهم بتفوق الغربيين الغلمي والمالي والعسكري. واكتفوا بالاستغاثة بالاولياء وبالدعاء والتسبيح ...
-  الجمود: يرى ان الاسلام واقع بين امرين: الجمود والجحود. الاول يدعو الى التمسك بالقديم والوقوف في وجه كل تجديد او تعديل وتسبب ذلك باتهام الاسلام بالتخلف والتأخر وباعلان الحرب على العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية بحجة انها علوم الكفار مما حرم الاسلام ثمارها ومكّن سوى المسلمين من احراز السبق والتحكم في خيرات الارض. اما الجحود فيدعو الى نبذ كل قديم ولا يرضى الا ان " يفرنج المسلمين وسائر الشرقيين ويخرجهم عن جميع مقوماتهم ومشخصاتهم ويحملهم على انكار ماضيهم .
- فقدان الثقة بالنفس: وهذا في نظره شر العل لانه ادخل في روع المسلمين انهم لا يصلحون لشيء وانهم عاجزون ... 
الخروج من هذه الازمة :
     يعتبر ارسلان ان ميزة الاسلام انه سمح يتقبل كلب انواع الحضارة العصرية . فهو دين يتميز بالمرونة والتقبل وهو دين العقل " يذهب مع العقل كيف سار " ولكنه متشدد في الفضائل والاداب . الاسلام دين مبني على المساواة . والمسلمون على مر التاريخ تميزوا بالانفتاح والتسامح بخلاف الاوروبيين الذين ارتكبوا المجازر زمن الصليبيين وزمن الاستعمار الحديث... وقد شن ارسلان هجوما شرسا على سياسة مصطفى كمال اتاتورك العلمانية ومحاولته تشويه صورة الدين الاسلامي بزعمه انه متخلف ويقف حجر عثرة امام عجلة التطور . 
        وعلى العكس من ذلك يرى شكيب ارسلان ان الانفتاح على الغرب ليس خطيرا . فالعلاقات بين الشرق والغرب كانت قائمة في رأيه على مختلف المستويات المادية والثقافية والفكرية . ولا يؤمن بالتفوق الفطري للغربيين وينكر ان العلم الحديث هو الذي مكنهم من اختراع الالات وبسط سلطانهم على الارض بل " الحمية والعزيمة والنجدة هي التي تأتي بالطيارات والدبابات والقنابر ( القنابل ) " . وهكذا فان الارادة البشرية هي سر التقدم لا العلم ولا التكنولوجيا ما دام هذان وليدين لها ويهما تقيّض للشعوب الغلبة على اعدائها كما جرى في اليابان التي اخذت تضارع الاوروبيين في الصناعات والعلوم بعد ان كانت امة شرقية متخلفة كسائر الامم . ومثل هذا ليس بعسير على الامة الاسلامية . فالحض على العمل واستنهاض الهمم كفيلان بدفع المسلمين الى الانتصار على تخلفهم وفقرهم ومعتبرا ان الاسلام نفسه ثورة على القديم ودعوة الى الاخذ بكل جديد لا يعارض العقيدة. ويستحيل ان يكون شيء مما يفيد المجتمع الاسلامي مخالفا للدين المبني على اسعاد البشر. 

ثانيا: الاتِّجاهُ التحديثي – التغريبي :

   يرى اصحاب هذا الموقف ان التأخر الجاثم على بقاع الشرق هو نتيجة خصال الشرقيين مثل حب الدعة والكسل والاتكالية وانشدادهم عن العقل ومجافاتهم العمل والتحدي وركوب المصاعب والمغامرة . ويرى هذا الفريقُ أنَّ الدعوةَ إلى العودة إلى التُراث قد أضرَّت بمسيرة التقدُّم الحضاريِّ للأُمَّة العربيَّة، وكانت سببًا أساسيًّا في فشل النهضة العربيَّة، منذ مطلع القرن التاسعَ عشر، حين حصل الاصطدامُ الأوَّل بين العَرب والغَرب، الأمر الذي أدَّى إلى تخلُّف المجتمع العربيِّ ووصولِه إلى المرحلة الراهنة من الضعف الفكريّ، العلميِّ والتِّقانيِّ والاقتصاديِّ والسياسيِّ والعسكريِّ، أي الحضاريِّ بوجهٍ عامّ. 

فرح انطون :
   يرى فرح انطون ان اسباب التخلف آفات كثيرة اهمها:
-  الجهل : وسببه قلة المؤسسات التعليمية والوطنية وفساد مناهجها وافتقارها الى اسس خلقية ووطنية متينة.
-  الشقاق: وهو منتشر بين طوائف الشرق المختلفة
- اتكالية الشرقيين وقعودهم عن السعي وتمنية نفوسهم بخيرات الاخرة اذا فاتتهم خيرات الدنيا فاكتفوا بالايمان مما ادى الى استعبادهم واستغلالهم على يد الشعوب القوية.
-  تخلف المرأة: ناجم عن جهلها والاستخفاف بها.
-  فساد النظام السياسي: ويعود ذلك الى ضعف شخصية الحكام وعدم كفايتهم وسيطرة بطانتهم عليهم وانتقال السلطة بالوراثة مما ادى الى تفكك البلدان الشرقية واضعف مقاومتها امام اندفاع الغربي اتجاهها. 
   ما هو السبيل للخروج من حالة التخلف؟
     لقد رأى فرح انطون في دعوة الافغاني الى الانضواء تحت لواء الدين من اجل سلوك طريق التقدم، دعوة تنم عن " تجاهل طريقة تطور الحضارات وفشل في فهم الطبيعة الانسانية " . فالفهم الصحيح والسليم للتاريخ ولما يحرك عمل الانسان هو وحده القادر على الوصول الى نظرية شرعية للمجتمع ولاساليب اصلاحه. وهذا لا يكون الا بالعلم اما الدين فلا لانه يجلب التشويش فهو يصرف الشرقيين عن الاخذ " بالعلم الطبيعي الذي عليه بناء المدنية في هذا العصر ويحملهم الى الاكتفاء بالايمان عن كل شيء والاتكالية والتعود عن السعي ". 
     ولذلك يشدد فرح انطون على دور العقل في التقدم . فيميز بين العلم والدين وينادي بفصل الدين عن الدولة . وبناء المجتمع الحديث على اسس عقلية ودنيوية محضة لا شأن للدين بها. والدعوة للوحدة الاسلامية يجب ان تتوقف مع انتهاء منفعتها الايديولوجية . وان فصل الدين عن الدولة عند فرح انطون فهو يهدف الى وضع اسس دولة علمانية يشترك فيها المسلمون والمسيحيون. ولبلوغ ذلك لا بد من امرين :
- فصل الجوهري عن العرضي في كل الاديان : فالجوهري هو مجموعة المبادىء وهي واحدة في جميع الاديان . والعرضي هو مجموعة الشرائع التي قد تصح في زمن دون اخر. 
-  الفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية لان غايتهما مختلفتين فالدينية تشرع للاخرة والزمنية تشرع للحياة الدنيا. ولان المساواة بين ابناء الامة تقتضي ذلك الفصل بينهما . وايضا لان الجمع بين السلطتين يفضي الى ضعف الامة جراء الخصام الدائم بين رجال الدين ورجال الفكر والفلسفة . كما ان النظام الديني يصبو الى الوحدة الدينية التي تتنافى مع مبدأ حرية الاعتقاد ومع مبدأ الاختلاف والتباين .
     ولذلك يرى فرح انطون ان الدول الحديثة تقوم على الوحدة الوطنية وتقنيات العلم الحديث . وان سر ارتقاء اوروبا سببه الفصل بين السلطتين وهذا اساس كل مدنية وتقدم . فليس المطلوب اذا اصلاحا دينيا او مدنيا بل اصلاح اجتماعي عام يرمي الى محو الفقر والجهل والظلم بالاساليب السياسية والاجتماعية المعروفة .
     اما اذا كانت المدنية الاسلامية القديمة قد حققت قوة ومنعة ، واقامت مدنية عظيمة فلانها كانت مدفوعة بدافع الفتح والحض على الجهاد لا بدافع الدين . . اما اليوم فلم تعد السياسة الدينية تؤثر في بني "الشرق غير زيادة ضعفهم وحل عزائمهم بازاء الحيتان الهائلة المنقضة عليهم لابتلاعهم."

أمين الريحاني:

تأثر الريحاني في صياغة موقفه من مسألة التقدم والتحرر بعوامل عديدة يمكن ذكر ابرزها : 

- الواقع الذي يعيشه العرب مأساوي جدا وذلك بسبب الظلم الذي تمارسه السلطنة العثمانية في المنطقة ، وسياسة التجهيل والإفقار. 

- الاختبار الأمريكي الذي أسقط من ذهنه أوهام الحريّة والتقدّم في المجتمع الأمريكي والانتداب الفرنسيّ الذي تكشّف عن استعمار وتحكّم واستغلال. 

- مفكّرو الثورة الفرنسيّة ومفكّرون آخرون تأثّر بفكرهم، منهم المعرّي وروسّو وداروين.

شارك الريحاني مع عدد من المهاجرين في تشكيل:" لجنة تحرير سوريا ولبنان" وهي مشاركة تدل على رغبته  في تحرير بلاده من السيطرة التركيّة، ومن ثمّ من السيطرة الغربيّة. ولم يكن انشغاله بهموم الوطن العربي نتيجة عصبيّة قومية، لأنّه مؤمن بحقّ جميع الشعوب في تقرير مصيرها، وحقّ الشعب العربي في تقرير مصيره ما هو إلاّ جزء من حقّ الشعوب كلّها.

اهتمّ الريحاني بحريّة المواطن وبدوره في تحديد سياسة بلده عبر اختيار الحكّام والقادة. فأول دلائل الحياة الراقية أنْ يتمتع أفراد الأمة على السواء بهذه الحقوق الطبيعية فيسْعَون دائماً لتعزيزها وينهضون للدفاع عنها عندما تُقيَّد وتُمتهن .

وأن الإنسان لا يُفلح ولا يرتقي إلا بممارسة حقوقه الطبيعية، وأن الأمم لا تنشأ إلا بنشوء أفرادها، وأن الحكومات الحرّة لا تقوم إلا بشرائع عادلة  تسنّها المجالس النيابية لا بأوامر يصدرها الملوك والسلاطين وأول حقوق الإنسان (الحرية: حرية الفكر، وحرية القول، وحرية العمل؛ وأول أسباب الرقيّ في الأمم الحرية الاجتماعية والحرية السياسية والحرية الدينية.

وهكذا يدعو الى الديموقراطية التي تضمن فصل السلطات الثلاث التشريعيّة، التنفيذيّة، والقضائيّة. وفي توجّهه هذا، كان مدركًا أنّ النظام الجمهوري كالنظام الملكي، يمكن أن يميّز بين القويّ والضعيف، بين الغني والفقير، كما يمكن أن يفسد فيه المال الضمائر، وأن يضعف الشرائع.

ولا يُغفل الريحاني أهمية (القانون) لا بوصفه سلطة تُمليها الشرائع البعيدة عن التطور الفكري والسياسي والاجتماعي للإنسان، ولكن بوصفها منجزاً بشرياً قابلاً للإزاحة كما هو قابل للإحلال، فيقول: (ومن أكبر دعائم الحكومات الحرة المستقلة (قانون) يكفل لشعبها هذه الحقوق الأولية، ويوجب عليهم الدفاع عنها يوم ينهض عليها الظالمون ويحاولون قتلها (إنه القانون، ولكن أي قانون... إن نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كانتا مشغولتين بإيجاد البدائل، والبدائل مجرد طرحها تغدو فيما تغدوه اعتراضاً على مقولات المؤسسات الدينية (الثوابت)، والثوابت تلك جاءت من النصوص (المقدسة).

 وأما البدائل فقد جاءت من النصوص البشرية المُنْتَجة من العلوم الوضعية، وفي مقدمتها علوم الطبيعة وتليها علوم الإنسان. والبدائل هذه جاءت من الغرب التنويري العلماني  لا الغرب بوجهه الاستعماري. حمْلتها إلى الشرق العقلية النخبية التي حاولت أن توضّع الناتج الغربي التنويري في البينات اللغوية والنفسية في الشرق العربي. 

وقد ثبَّط جزءاً منها ما ظهر من وحشية المستعمر الغربي في الشام ومصر والعراق، ممّا أحرج النخَب العربية تلك. وبالمقابل فقد قويتْ العقلية النخبية أن تجد (للأنوار) الفرنسية ول (الليبرالية الأوربية) وللماركسية السوفيتية أمكنةً في البنى الثقافية والأبنية السياسية والأدبيات الفكرية، إلى أن وصل كثير منها إلى حدَّ التبيئة والتوطين.

كما رأى أنّ الاستقلال قد يكون شكليًّا متمثّلاً بخروج الجنديّ الأجنبيّ، وبقاء المصالح الاستعماريّة مؤمّنة بواسطة الدولة الوطنيّة نفسها. لذلك دعا إلى استمرار الكفاح من أجل تحقيق عدالة اجتماعيّة ناجزة، وانتقد الاستغلال وسوء توزيع الثروة على الصعيدين الوطني والعالمي.

وبرأي الريحاني فان قيام وحدة عربيّة ذات أهداف إنسانيّة تحقّق مجد العرب، وتكون خلاصًا للأقليّات؛ خصوصًا إذا مازجوا العرب ممازجة روحيّة حضاريّة، في ظلّ حكم مدنيّ ديمقراطيّ قائم على العدل والمساواة، وهذا يعني أنّ الريحانيّ التزم بعروبة علمانيّة تلتزم بقيم الحريّة وعدم التعصّب، وفصل الدين عن الدولة.

و فصل الدين عن الدولة يشكل بوابة عبور الى التحرر والتقدم ؛ لأنّ كلّ طائفة أمست وطنًا قائمًا بذاته، تقدّم مصالحها على المصلحة الوطنيّة، وتعامل مع الإسلام بدقّة متناهية؛ فهو مع إيمانه بأنّ في القرآن تعاليم تواكب العصر إذا ما فسّرت تفسيرًا صحيحًا، إلاّ أنّ ذلك لا يعني تبنّي القرآن دستورًا لدولة الوحدة العربيّة؛ لذلك آمن بالعلمانيّة، واعتبرها الصورة الأخيرة المتوخّاة لدولة الوحدة.





 

"غرضنا في جميع ما نستقريه ونتفحصه استعمال العدل لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نميزه وننقده طلب الحق لا الميل مع الآراء" ابن الهيثم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق