القصيدة العينية لابن سينا في النفس هبطت اليك من المحل الارفع |
القصيدة العينية في النفس لابن سينا:
عينية ابن سينا في (
النفس ) هي نص أدبي جميل يتضمن معالجة الشيخ الرئيس للنفس البشرية , فقد تحدّثَ في
( حدِّ النفس : تعريفها ) و في مصدر النفس و اتصالها بالبدن و في إثبات النفس ( عن
طريقي الحدس و النظر العقلي ) و في ماهية النفس ( ما النفس ؟ ) و في مصير النفس .
هبطَتْ إليك من المَحَلِّ الأرفعِ ..... ورقاءُ ذاتُ
تعّزُّزٍ و تَمَنُّعِ
محجوبةٌ عن كلِّ مُقلةِ
ناظرٍ ..... وهي التي سَفَرَتْ و لم تتبَرْقَعِ
أنِفَتْ و ما أنِسَتْ
فلما واصَلَتْ ..... ألِفَتْ مجاوَرَةَ الخرابِ البلقَعِ
و أظنها نسيتْ عهوداً
بالحمى ..... و منازلاً بفراقها لم تَقنَعِ
حتى إذا اتصلتْ بهاءِ
هبوطها ..... مِنْ ميمِ مركزِها بذاتِ الأجْرَعِ
عَلِقَتْ بها ثاءُ
الثقيلِ فأصبحتْ ..... بين المعالمِ و الطُلولِ الخُضَّعِ
تبكي إذا ذكرتْ عهوداً
بالحمى ..... بمدامعٍ تهمي و لم تتقَطَّعِ
و تظلُّ ساجعةً على
الدِّمَنِ التي ..... درسَتْ بتكرارِ الرياحِ الأربعِ
إذ عاقَها الشَّرَكُ
الكثيفُ و صدَّها ..... قفصٌ على الأوجِ الفسيح المِربعِ
حتى إذا قرُبَ المسيرُ
إلى الحمى ..... و دنا الرحيلُ إلى الفضاء الأوسَعِ
و غدَتْ مُفارِقَةً لكلِّ
مُخَلَّفٍ ..... عنها حليفُ التُّرْبِ غير مُشَيَّعِ
هجعَتْ و قد كُشِفَ
الغِطاءُ فابصَرَتْ ..... ما ليسَ يُدرَكُ بالعيونِ الهُجَّعِ
و غدتْ تُغرّدُ فوقَ
ذروةِ شاهقٍ ..... و العِلمُ يرفَعُ كلَّ من لم يُرفَعِ
فلأيِّ شيءٍ أُهْبِطَتْ
مِنْ شامخٍ ..... عالٍ إلى قَعرِ الحضيضِ الأوضَعِ ؟
إنْ كانَ أهْبَطَها
الإلهُ لِحكمةٍ ..... طُويَتْ عن الفَذِّ اللبيبِ الأروَعِ
فهبوطُها ـ لا شكّ ـ
ضربةُ لازِبٍ ..... لتكونَ سامعةً لِما لم تَسمعِ
و تعودُ عالمةً بكلِّ
خفيَّةٍ ..... في العالمينَ .. و خَرْقُها لم يُرْقَعِ
و هي التي قطعَ الزمانُ
طريقَها ..... فكأنما غرَبَتْ بعينِ المَطْلَعِ
فكأنها
برقٌ تألَّقَ بالحمى ..... ثمّ انطوى .. فكأنّهُ لم يلمعِ
شرح أبيات القصيدة :
يقولُ الشيخُ الرئيسُ في
هذه القصيدة التي ضَمَّنها آراءه في النفس : إن النفس قد هبطت من عالم العقولِ
المجردة , الذي تفيضُ منه النفوس على الأبدان إلى الحضيض الأوضع و هو الجسد ، و
النَّفسُ حقيقةٌ عقلية لا تُدرَكُ بالحس ، لكنها تُدرَكُ بالعقل ، و قد هبطت من
عالمها مُكْرَهةً ، وبعدَ أن اتصلت بالجسد و ألِفَتهُ عَزَّ عليها أن تفارقه ، و
عندئذٍ نسيت العالم الذي هبطت منه و هو العالمُ العلوي ، فأقامت بالعالم السفلي و
اتصلت بالمادة الجسمانية ،و توزعَتْ بين أجزاء الجسد ، على أنها حين تذْكُرُ
ماضيها في عالم الروحانيات تجهَشُ بالبكاءِ أسفاً و حسرة ، و النفسُ حين تبكي هذا
الماضي فهي تبكي أيضاً على الجسد الفاني حينما تفارقه .
و النفسُ حينما حلت بالجسد حالت الشهواتُ الحيوانية و الرغباتُ الجسمانية بينها
وبين الاتصال الدائم بالعالم العلوي الروحاني الذي هبطت منه ، حتى إذا حان الرحيل
بمغادرة الجسد ، و عادت إلى ما كانت عليه قبل الهبوط ، أدركت بعد مُفارَقةِ الجسد
من الحقائق ما لا يُدرَكُ بالعين ،و النفسُ حين يتمُّ لها هذا ترتاح كلَّ الارتياح
.
ثم يتساءلُ الشيخُ الرئيس عن الباعث على هبوط النفس من عالم العقولِ المجردة إلى
الجسد ، و هل كان هذا لحكمةٍ لا يُدركها العقلاء ؟ و هو يجيب عن هذا التساؤل فيقرر
أن هبوطها كان أمراً لازماً أوجبهُ الحاكمُ القهّار ، كي تدركَ النفسُ ما لم تكن
تدركه من عظمة الخالق العظيم إذا ظلَّت في عالمها الأول ، يقولُ تعالى : ( و ما
خلقتُ الجن و الإنسَ إلا ليعبدون ) ، ثم ترجعُ النفسُ و هي عالمةٌ بالأسرار الخفية
في عالم الغيب و الشهادة ، و النفسُ في سيرتها هذه كأنها برقٌ خاطفٌ تألقَ حيناً
ثم انطفأ كأنه لم يلمع .
و الخلاصة أن الرئيس يصفُ اتصال الروح بالجسم أنه حصل كُرْهاً ، و دخولها في البدن
كان كُرْهاً ، و خروجها منه تمّ كُرهاً , و لذلك نراهُ يسأل : لِمَ كان هذا
الدخولُ و هذا الخروج ؟ و يجيب عن هذا : بأن دخولها كان سبباً في علمها ما لم تعلم
من العالم الأرضي بعد العالم السماوي ، ولكي تُكَوِّن هذه النفسُ رأياً صحيحاً عن
معنى الكمـال ، و لكنّ الشيخ الرئيس على الرغم من هذا لم يزل في حيرة من أمر النفس
، و لم يصل إلى شيء يطمئنُّ إليه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق