النفس (القصيدة العينية في النفس ) للحسين بن عبد الله بن سينا


القصيدة العينية لابن سينا في النفس هبطت اليك من المحل الارفع

القصيدة العينية في النفس لابن سينا:

عينية ابن سينا في ( النفس ) هي نص أدبي جميل يتضمن معالجة الشيخ الرئيس للنفس البشرية , فقد تحدّثَ في ( حدِّ النفس : تعريفها ) و في مصدر النفس و اتصالها بالبدن و في إثبات النفس ( عن طريقي الحدس و النظر العقلي ) و في ماهية النفس ( ما النفس ؟ ) و في مصير النفس .


هبطَتْ إليك من المَحَلِّ الأرفعِ ..... ورقاءُ ذاتُ تعّزُّزٍ و تَمَنُّعِ

محجوبةٌ عن كلِّ مُقلةِ ناظرٍ ..... وهي التي سَفَرَتْ و لم تتبَرْقَعِ

أنِفَتْ و ما أنِسَتْ فلما واصَلَتْ ..... ألِفَتْ مجاوَرَةَ الخرابِ البلقَعِ

و أظنها نسيتْ عهوداً بالحمى ..... و منازلاً بفراقها لم تَقنَعِ

حتى إذا اتصلتْ بهاءِ هبوطها ..... مِنْ ميمِ مركزِها بذاتِ الأجْرَعِ

عَلِقَتْ بها ثاءُ الثقيلِ فأصبحتْ ..... بين المعالمِ و الطُلولِ الخُضَّعِ

تبكي إذا ذكرتْ عهوداً بالحمى ..... بمدامعٍ تهمي و لم تتقَطَّعِ

و تظلُّ ساجعةً على الدِّمَنِ التي ..... درسَتْ بتكرارِ الرياحِ الأربعِ

إذ عاقَها الشَّرَكُ الكثيفُ و صدَّها ..... قفصٌ على الأوجِ الفسيح المِربعِ

حتى إذا قرُبَ المسيرُ إلى الحمى ..... و دنا الرحيلُ إلى الفضاء الأوسَعِ

و غدَتْ مُفارِقَةً لكلِّ مُخَلَّفٍ ..... عنها حليفُ التُّرْبِ غير مُشَيَّعِ

هجعَتْ و قد كُشِفَ الغِطاءُ فابصَرَتْ ..... ما ليسَ يُدرَكُ بالعيونِ الهُجَّعِ

و غدتْ تُغرّدُ فوقَ ذروةِ شاهقٍ ..... و العِلمُ يرفَعُ كلَّ من لم يُرفَعِ

فلأيِّ شيءٍ أُهْبِطَتْ مِنْ شامخٍ ..... عالٍ إلى قَعرِ الحضيضِ الأوضَعِ ؟

إنْ كانَ أهْبَطَها الإلهُ لِحكمةٍ ..... طُويَتْ عن الفَذِّ اللبيبِ الأروَعِ

فهبوطُها ـ لا شكّ ـ ضربةُ لازِبٍ ..... لتكونَ سامعةً لِما لم تَسمعِ

 

و تعودُ عالمةً بكلِّ خفيَّةٍ ..... في العالمينَ .. و خَرْقُها لم يُرْقَعِ

و هي التي قطعَ الزمانُ طريقَها ..... فكأنما غرَبَتْ بعينِ المَطْلَعِ

          فكأنها برقٌ تألَّقَ بالحمى ..... ثمّ انطوى .. فكأنّهُ لم يلمعِ

شرح أبيات القصيدة :

يقولُ الشيخُ الرئيسُ في هذه القصيدة التي ضَمَّنها آراءه في النفس : إن النفس قد هبطت من عالم العقولِ المجردة , الذي تفيضُ منه النفوس على الأبدان إلى الحضيض الأوضع و هو الجسد ، و النَّفسُ حقيقةٌ عقلية لا تُدرَكُ بالحس ، لكنها تُدرَكُ بالعقل ، و قد هبطت من عالمها مُكْرَهةً ، وبعدَ أن اتصلت بالجسد و ألِفَتهُ عَزَّ عليها أن تفارقه ، و عندئذٍ نسيت العالم الذي هبطت منه و هو العالمُ العلوي ، فأقامت بالعالم السفلي و اتصلت بالمادة الجسمانية ،و توزعَتْ بين أجزاء الجسد ، على أنها حين تذْكُرُ ماضيها في عالم الروحانيات تجهَشُ بالبكاءِ أسفاً و حسرة ، و النفسُ حين تبكي هذا الماضي فهي تبكي أيضاً على الجسد الفاني حينما تفارقه .
و النفسُ حينما حلت بالجسد حالت الشهواتُ الحيوانية و الرغباتُ الجسمانية بينها وبين الاتصال الدائم بالعالم العلوي الروحاني الذي هبطت منه ، حتى إذا حان الرحيل بمغادرة الجسد ، و عادت إلى ما كانت عليه قبل الهبوط ، أدركت بعد مُفارَقةِ الجسد من الحقائق ما لا يُدرَكُ بالعين ،و النفسُ حين يتمُّ لها هذا ترتاح كلَّ الارتياح .
ثم يتساءلُ الشيخُ الرئيس عن الباعث على هبوط النفس من عالم العقولِ المجردة إلى الجسد ، و هل كان هذا لحكمةٍ لا يُدركها العقلاء ؟ و هو يجيب عن هذا التساؤل فيقرر أن هبوطها كان أمراً لازماً أوجبهُ الحاكمُ القهّار ، كي تدركَ النفسُ ما لم تكن تدركه من عظمة الخالق العظيم إذا ظلَّت في عالمها الأول ، يقولُ تعالى : ( و ما خلقتُ الجن و الإنسَ إلا ليعبدون ) ، ثم ترجعُ النفسُ و هي عالمةٌ بالأسرار الخفية في عالم الغيب و الشهادة ، و النفسُ في سيرتها هذه كأنها برقٌ خاطفٌ تألقَ حيناً ثم انطفأ كأنه لم يلمع .

و الخلاصة أن الرئيس يصفُ اتصال الروح بالجسم أنه حصل كُرْهاً ، و دخولها في البدن كان كُرْهاً ، و خروجها منه تمّ كُرهاً , و لذلك نراهُ يسأل : لِمَ كان هذا الدخولُ و هذا الخروج ؟ و يجيب عن هذا : بأن دخولها كان سبباً في علمها ما لم تعلم من العالم الأرضي بعد العالم السماوي ، ولكي تُكَوِّن هذه النفسُ رأياً صحيحاً عن معنى الكمـال ، و لكنّ الشيخ الرئيس على الرغم من هذا لم يزل في حيرة من أمر النفس ، و لم يصل إلى شيء يطمئنُّ إليه
.

"غرضنا في جميع ما نستقريه ونتفحصه استعمال العدل لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نميزه وننقده طلب الحق لا الميل مع الآراء" ابن الهيثم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق